الصفحات

الثلاثاء، 6 مارس 2012

قصة السيد جعفر الاعرجي الموصلي

في مطلع العشرينيات من القرن الماضي قرر شاب موصلي أن يغير مذهبه من الاشعرية الى الجعفرية ولم يكتفي بذلك بل ذهب الى النجف ودرس فيها ثم عاد الى الموصل في زمن لم يكن في الموصل أو في أريافها شيعة لأهل البيت إذ كانت مدينة الموصل العربية سنية اشعرية والارياف بين تركمان وشبك (علويين) ومسيحيين وأيزيديين وعشائر عربية سنية.


في تلك الحقبة كانت مدينة الموصل قلعة تغلق ابوابها ليلا والاحياء تسكنها عوائل تعرف بعضها جيدا منذ زمن بعيد لذا كانت المدينة ذا طابع محافظ جدا والمساجد ذا تأثير خاص ولم يكن في الموصل أنذاك شيعة أو سلفية بل كان الجميع على مذهب الاشاعرة وما أظن ان السيد جعفر الاعرجي غادر المدينة لمضايقته بل أنه طلب النجف للتزود بالعلوم وليتأكد من مدى صحة إختياره للمذهب.


ولكن يبدوا انه كانت هناك مناظرات حرة بين السنة (أهل المدينة) وبين أفراد من الشيعة (الزائرين) الى الموصل مما جعل السيد جعفر غير مقتنع بأجوبة مشايخ اهل السنة فسافر الى النجف وسكنها من اجل العلم وتعمم بعمامة رجال الدين وتوجه بشكل خاص الى العلم العرفاني والزهد في الدنيا, وبعد سنوات عاد الى الموصل ليلتقي بأهله واصحابه ويناظرهم. ورغم ترحاب مدينته به إلا انهم لم يقتنعوا برأيه ولم يجاروه في تغيير مذهبه وتحوله الى رجل دين شيعي ولما وجد أذانا غير مستمعة قرر التوجه الى القرى.


توجه تلقاء قرى العلويين الذين يغالون في حب اهل البيت ليتحدث اليهم لكنه وجد أن العلويين التركمان والشبك المنتشرين على ثلاثين قرية متباعدة ومتقاربة وجدهم يتبعون ساداتهم من سادة الطريقة العلوية (البكتاشية), جلس الى هؤلاء السادة فقالوا له "نحن لا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نزكي لان الصلاة والصيام والحج والزكاة مرفوعة عنا بحب اهل البيت الذين سيشفعون لنا" ولما وجد السيد جعفر هؤلاء السادة جهله ومغالين جدا تركهم.


كان يسير بين القرى ساعات طويلة ليحل ضيفا عند أناس لا يعرفهم ليحدثهم وفي كل قرية كان عليه ان يجادل سادة العلويين "البكتاشية" لكن دون جدوى, فأراد الحديث الى الفلاحين والبسطاء فقالوا له وهم ينظرون اليه بعمامته السوداء "نحن فلاحون نعمل من شروق الشمس الى الغروب, وعد الغروب ننام" فقال لهم "سأعمل معكم طوال النهار" وشاءت الاحوال أن يحل شهر رمضان وهو في تلك القرية (تركمان علويين) فكان هو الصائم الوحيد بينهم في صيف شديد الحرارة.


في اليوم التالي خرج معهم الى العمل في الحقول والبساتين ولم يكن العمل يقتصر على الفلاحة التي تتطلب قوة بدنية ومجهودا كبيرا بل ايضا العمل مع رعاة الماشية والابقار, فذهب مع الفلاحين الذين كانوا يحملون معهم طعاما وماء وبعضهم يحمل خمرا مخففا ويعملون بشكل جماعي ويتحدثون فيما بينهم ولما وجدوا ضيفا يزوهم ويعمل معهم ويحدثهم عن قصص النبي واهل البيت قصصا لم يسمعوها من قبل كانوا شديدي الاستماع.


لم يقل لهم السيد جعفر لا تشربوا الخمر او صلوا معي بل كان يصلي لوحده وهم ينظرون اليه وهو صائم في الحر الشديد ويعمل معهم ولم يطلب منهم عشاء دسما بل اكل ما كانوا يأكلون من رغيف الشعير, أحبوه حبا شديدا وتعلقوا به فلاحين ورعاة رغم بساطة علمهم لطلاقته وبشاشته وابتسامته, ولما ادرك السيد جعفر حب هؤلاء له بدء يحدثهم كيف كان رسول الله يصلي وكيف صام الامام علي والزهراء والحسن والحسين ثلاثة ايام ونزل فيهم قراءن .... وكيف منع رسول الله الخمر عن اصحابه, حديثا عن السيرة النبوية وسيرة ائمة اهل البيت.


تلك القرية كانت كثيرة الحقول والماشية وفي مواسم العمل يسير اليها الكثير من اهل القرى الاخرى للعمل لذا كان اختيار السيد جعفر للمكان سديدا فما مضى شهر رمضان حتى رأى اجرار الخمر تتكسر في البيوت وصوت الاذان يعلو في القرية, قالوا "يا سيد جعفرنحن لم نعلم ان الخمر حرام والصلاة والصيام واجبتان" ويعد أن تأكد من أيمان القوم تركهم على ملة الاسلام وغادر الى قرية أخرى تبعد اكثر من ثلاثين كيلو متر ليبدء صفحة جديدة.


نجاحه في هذه القرية أعطته سمعة عظيمة فما أن يدخل قرية حتى يستقبله الناس ويتحدث الى البسطاء وفي حقيقة الامر انه نجح في قرى ولم يوفق في اخرى لتاثير سادة الطريقة العلوية ولكنه بالتأكيد كان لا يخرج من اي قرية حتى يجد فيها عصابة او قوما مؤمنين بملة الاسلام. نجاحه هذا جعله معروفا لدى مراجع النجف وعلمائها ولدى مشايخ الموصل الذين كانوا يرحبون به للحوار, وقد وجدت له ذكرا لدى المرحوم العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني من علماء النجف الاشرف إذ يذكره في رسالة من مدينة الموصل ( نينوى ) في سنة 1940 قال عنها :
(فقد سألتني - أيها الفاضل السعيد الزكي الأفخر، السيد جعفر بن السيد حسن الأعرجي الموصلي، أطال الله بقاك في احياء شرع جدك الأطهر - أن أكتب شيئا في بيان سبب اختلاف مذاهب العامة في فروع أحكام الدين ...) مما دعا الشيخ الطهراني الى كتابة كتابي (تفنيد قول العوام بقدم الكلام) و (توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد).


بعد كل العمل الجاد للسيد جعفر اختارته المرجعية ليكون وكيلها في شمال العراق فأعطى نموذجا عن زهد وعلم الامام موسى الكاظم ولكن للاسف ومع مطلع الخمسينيات بدا ان هناك من بداخل الحوزة العلمية من لا يرغب بالسيد جعفر وكيلا بعد تزايد اعداد الشيعة في الموصل, فأثر السكن في النجف والابتعاد عن المنافسة الدنيوية على زعامة الشيعة في الموصل خاصة عندما استعمل معه من اساليب الترهيب والترغيب لترك الموصل, فقرر تركها على ان لا يشق صف الطائفة الشيعية بين طرفين متباغضين .... وهناك في النجف الاشرف بجوار أمير المؤمنين قضى بقية عمره وفيها دفن.


ما أحوجنا الى أمثال السيد جعفر.

الثلاثاء، 1 فبراير 2011

الاسباب الحقيقة لفشل مهمة مسلم بن عقيل

احمد علي
15 December, 2010

دأب المؤرخون على وصف العراق بأهل الشقاق والنفاق لما بدا منهم من غدر بالحسين بن علي وثوراتهم على ملوك الامويين والعباسيين, فهل كان أهل العراق حقا أهل شقاق ونفاق وهل كانت ظاهرة النفاق خاصة بهم عن غيرهم من الامم! وهل النفس العراقية شيطانية ونفوس غيرهم من ملل العرب ملائكية!

تبدأ القصة مع الحسين بن علي وبيعة أهل الكوفة – عاصمة العراق أنذاك – وهنا اقف عند مقدمات غدر اهل الكوفة بالحسين وقتلهم لسفيره وابن عمه مسلم بن عقيل, إذ ان ما تلا مقتل مسلم في مأساة كربلاة هو تحصيل حاصل لفشل حركة مسلم, فما الاسباب الحقيقيه لفشل حركة مسلم في الكوفة!

إن سألت أي مسلم عربي عالما كان أم جاهل عن ذلك قال لك (غدر أهل العراق) لما دونه علماء السير والتواريخ. وما لايعلمه هؤلاء الجهله أن بدء تدوين التاريخ الاسلامي كان في العصر العباسي وكان أهل التاريخ علماء في الدين والفقه والتفسير والحديث النبوي ممن تربطهم علاقات متينه بالبلاط العباسي المعروف بعدائه وبطشه بالعلويين, فإصدار كتاب في التاريخ الاسلامي يؤرخ لملوك المسلمين ما كان ليكون لو لا موافقة الحكومة العباسية وديوان الرقابة "كلمه كلمه".

ومن الظواهر الغريبه وجود ولاة قساة حكموا العراق بعد الامام علي بن ابي طالب ممن جاهروا بعدائهم لعلي وشتمهم له من على المنابر, قسوة مفرطة في معاملة شيعة علي في العراق بالصلب والنفي والسجن ومصاردة الاموال وقطع الارزاق, فإذ كان أهل العراق حقا غدارين كارهين لعلي وابنائه فلما القسوة المفرطة بحقهم ولما لم يكن ولاة الحجاز واليمن ومصر بهذه القسوة! قسوة ولاة العراق كانت بحق شيعة علي فقط والا ما وجدناها بحق غيرهم من الطوائف مما يوضح ان أغلب الشعب العراقي انذاك كان رافضا لتولي الحكام الامويين ثم العباسيين الحكم ولكن أغلب بقية الولايات في الشام والحجاز واليمن ومصر وفارس وشمال افريقيا ما كانت لتهتم بمن يحكم فكانت وقودا لجيوش تغزوا العراق لتثبيت حكم الامويين والعباسيين وفرض الحكم الاموي او العباسي وإذلال العراقيين! فزياد بن أبيه والحججاج قادا جيشين من الشاميين والحجازيين واقاما الوجود الاموي بالعراق أما العباسيون فاستعانوا بالفرس "السنة أنذاك" لحكم العراق.
 
وبالعودة لمناقشة الاسباب الحقيقيه لفشل مهمة مسلم بن عقيل في الكوفة!
- بعد وصول خبر موت معاوية وتولي إبنه يزيد للخلافة الى ولايات المسلمين ومنها الكوفة, استاء المسلمون لتولي يزيد لما اشتهر به من المجاهرة بالخلاعة والفجور فوجد أهل العراق ذلك مبررا كافيا للخلاص من حكم الامويين بعد حكم دام عشرين عاما في عهد معاوية نقض بكل ما وعدهم به في صلحه المشهور مع الحسن بن علي, إذ كان من شروط الصلح ان يترك شيعة علي وأهل العراق بمأمن وان لا يحاربهم في الرزق وأن لا يولي عليهم من يظلمهم وأن لا يتعرض لعلي بن أبي طالب في المنابر بالشتم وأن يترك الخلافة من بعده للحسن – إن كان حيا – أو للحسين.

وعلى النقيض من ذلك تماما, فان معاوية في فترة خلافته العشرون عام ولى زياد بن إبيه أحد أشد اعداء الامام علي واليا على الكوفة وجهزه بجيش من الشاميين والحجازيين من المبغضين لعلي وأمره بان يبدأ ببرنامج لتصفية العراق من رموز الولاء لأهل البيت إما بقتل أصحاب علي او سجنهم وقطع راتب بيت المال عن كل من يحب أهل البيت بل والتضييق عليهم في أعمالهم التجارية أو الحرفية. ثم منع الناس من الحديث بفضائل علي بعدما اسس دارا أشبه بالوقف اليوم لتعيين أئمة المساجد وخطبائها من الكارهين لأهل البيت وأمرهم "بالسنة" في شتم الامام علي بعد كل صلاة وأوقف الشرطة لاعتقال المعترضين وقتلهم اوسجنهم كما حصل مع حجر بن عدي الصحابي المعروف الذي اعترض على شتم زياد للامام علي بعد الصلاة فسجن ونفي وقتل "بالدفن حيا" في الشام بأمر من معاويه نفسه.

ولم يكتفي بذلك بل أذكى النعرات القبلية بشدة بين قبائل العراق وقدم السفهاء على المشايخ وخلق طبقة من الاغنياء المواليين له وحارب الاغنياء من الموالين لأهل البيت, وعمل على إعادة بعض العادات الجاهلية في المجتمع الاسلامي حتى ضاق العراقييون به ذرعا ومن واليه زياد.

- مات زياد بن أبيه قبل معاوية فولى معاويه النعمان بن بشير على العراق وكان بن بشير مسالما الى حد ما فلم يقتل أو يسجن العراقيين كزياد, ومات معاوية وتولى يزيد الخلافة وهنا وجد رجالات العراق من شيعة علي فرصة سانحة للترويج لدولة أهل البيت, زعيم الحزب العلوي في العراق كان شيخ بني مذحج هاني بن عروة أما زعيم الحزب الاموي فكان محمد بن الاشعث بن قيس شيخ بني كنده, أجتمع زعماء القبائل في الكوفة لمناقشة بيعة الخليفة! الحزب العلوي كسب الاغلبية من الحاضرين الذين ذكروا ظلم الامويين ونقض عهودهم للعراقيين فلم يجد الحزب الاموي امام التيار الجارف الموالي لاهل البيت الا مسايرتهم وإعلان الموافقه نفاقا لبيعة دولة أهل البيت, فأرسلوا مئات الرسائل الى الحسين بن علي تتضمن ثمانية عشر ألف توقيع لزعماء القبائل والشيوخ والوجهاء والافراد, وكل تلك المناقشات والترويج لدولة أهل البيت على مرأى ومسمع من الوالي الاموي النعمان بن بشير الذي أثر القبوع في دار الإمارة وعدم التعرض لاحد من العلويين.

- قرر الحسين بن علي ايفاد مسلم بن عقيل الى الكوفة بعد تلك الرسائل التي دعته الى القدوم لتولي الخلافة, خرج مسلم الى الكوفة منتصف شهر رمضان وبقي فيها اربع وستين يوما حتى استشاده يوم عرفة التاسع من ذي حجة. وهنا يمكننا القول ان فترة تواجد مسلم في الكوفة يمكن ان تقسم الى قسمين:

الاولى: ما قبل مجئ عبيدالله بن زياد
دخل مسلم بن عقيل الى الكوفة دخول الفاتحين إذ استقبله الالوف وصلى خلفه عشرات الالاف ولكنه:
اولا: ترك الوالي بن بشير داخل الامارة دون عزل او اعتقال, اذا لم يشأ ان يبدأ عهده بدم وبالاخص انه لم يقدم اي رجل من اهل الكوفة شكوى ضد الوالي بن بشير.
ثانيا: لم يؤسس لكتائب تقوم باعتقال وسجن او قتل الحزب الاموي في الكوفة بل تركهم أمنين وفي مطلق الحرية في نقد الحزب العلوي ونقد مسلم, شأنه شأن علي بن أبي طالب في منح الحرية للاخرين وإن كانوا مبغضين له مالم يستخدموا العنف.
ثالثا: لم يعد الزعماء والمشايخ والوجهاء بالاموال والمناصب بل تحدث في صلاة الجمعة وأحاديثه الاخرى ان توزيع الثروات ومناصب الدولة خاضع للعدالة والكفاءة لا على الوجاهة.
رابعا: تعامل مع غير العرب من المسلمين – الفرس والافارقة في الكوفة - ومع غير المسلمين – من يهود الكوفة ومسيحيها – باحترام كبير وهو ما لم يستسغه كثير من العرب واستهجنوه إذ كان معاوية اذكى النعرة القومية العربية فكان الفرس وغيرهم من غير العرب في الكوفة محتقرين وكذا اليهود والنصارى, وفي مسألة راتب بيت المال قال لهم مسلم ان الحسين سيعطي المسلم العربي وغير العربي وغير المسلم من المقيمين في الكوفة نفس الراتب.
خامسا: تحدث مسلم عن مسألة الغنائم في الفتوحات الاسلامية بشكل مغاير عما ألفه المسلمون.
إذ كان الامام علي والحسن والحسين لهم نظرة في مسألة الغنائم مغايرة او تختلف عن رؤية الخلفاء الاوائل ومعاوية, وباختصار كان المسلمون في إجتياحهم للبلاد غير المسلمة – الفتوحات – يجمعون النساء والاطفال والبنات والفتيان "ممن ليس لهم شعر على وجوههم" – مسألة السبي – ويقسمونها الى خمسة اقسام – خمس الجهاد – فيرسلون خمسها الى الخليفة ويأخذون اربعة الاخماس لتقسم بين الجيش, وكذا الحال على الذهب والفضة وكل ما يمكن اعتباره غنيمه اما الرجال من تلك البلدان فبعضهم يؤخذ كعبيد للعمل والخدمه عند سيده العربي المسلم.
كان الامام علي والحسنان غير موافقين على تلك السياسة في سبي واستعباد الامم الاخرى بل ارادوا استخدام الحرب كوسيلة للدفاع وليس لكسب الغنائم وجلب النساء أما نشر الدين فدعوا الى اتباع سنة النبي بارسال المبلغين والعلماء الى الامم الاخرى, وهذا ما قاله مسلم لاهل الكوفة.

الثانية: ما بعد مجئ عبيدالله بن زياد
كانت رسائل اقطاب الحزب الاموي في الكوفة تصل دون توقف الى يزيد تخبره ببيعة العراق للحسين وتخبره بضعف الوالي الاموي في الكوفة امام مسلم بن عقيل, مستشارو يزيد اقنعوه بتولية عبيدالله بن زياد لاعتبارات عدة منها دهائه وجرائته على الله وحقده على ال علي ومعرفته بتفاصيل المجتمع العراقي. كان يزيد يبغض عبيدالله وتردد لفترة في توليته ولكن مع كثرة رسائل أموي الكوفه والحاح حاشية يزيد ولى عبيدالله على الكوفة, خرج عبيدالله في مجموعة فرسان من دمشق الى البصرة اولا ليطمئن عليها فالكوفة دون توقف تقريبا وهو يريد وصول الكوفة قبل الحسين, ولما دخل الكوفة من جهة البصرة تعمم بعمامة سوداء شبيه بعمامة الحسين وغطى وجهه حتى ظن الناس انه الحسين.

دخل دار الامارة وعزل الوالي ثم ارسل سرا في طلب زعماء الحزب الاموي, فاجتمعوا حوله وانتهى الاجتماع بان يتم بث الشائعات بما يلي:
اولا: ان جيش الشام قادم في مائة ألف رجل ليستبيح الكوفة اذا بقيت على بيعة الحسين وهو ما لم يكن أصلا.
ثانيا: ان الصراع هو بين بني هاشم وبين بني امية وهما من قريش يتصارعان ثم يتصالحان كما تصالح الحسن مع معاوية ولا شان لقبائل وعشائر العراق في هذا الصراع.
ثالثا: الوالي الجديد بن زياد منح شيوخ القبائل الوافدين اليه للتحية أكياس الذهب ووعدهم بالاراضي والمناصب – وهو ما لم يفعله مسلم - وكل من يقف على الحياد له راتب من بيت المال او وظيفة.
رابعا: الوالي الجديد سيعتقل ويحارب عائلة كل من يوالي الحسين او يدعوا له بالبيعة – وهو ما لم يفعله مسلم ايضا بتهديد وترويع الحزب الاموي و مؤيديه.
خامسا: نهاية هذا الصراع ان يزيد سيرجع الحسين الى المدينة معززا مكرما ليعيش فيها كما فعل معاوية مع الحسن اما عبيدالله فسيقتص بشدة من الموالين للحسين.
سادسا: سيبدأ عهد جديد في ولاية عبيدالله بارسال جيش الكوفة الى الفتوحات لجلب الغنائم والنساء – وهو ما كان يرفضه مسلم.

بعدما سارت هذه الشائعات بين الناس انقسم المجتمع الى ثلاثة اقسام: اقلية مع مسلم واقلية مع عبيدالله واكثرية على الحياد,فكان أول نصر سياسي لعبيدالله الذي نظر اليه الناس انه يحمل شر ابيه في القسوة.
توجه بعض زعماء القبائل والافراد – من المحايدين - الى مسلم وسألوه ان تولى الحسين الخلافة:
- هل سيمنح زعماء القبائل امارات واموال واراضي ومناصب؟
- هل سيقدم زعماء القبائل والوجهاء والفرسان ويجعلهم طبقة فوق القانون؟
اجابهم مسلم ان الحسين سيسير على كتاب الله وسنة جده رسول الله في العدل بتوزيع الثروات وتوزيع الولايات والمناصب! فالافضلية في التقوى والكفاءة لا غير, حتى تلك اللحظه كان عبيدالله مختبأ في دار الاماره وغير قادر على مواجهة التيار العلوي.
ذهبوا الى عبيدالله وسألوه نفس الاسئلة فاجابهم على ما يتمنون, توزيع الثروات والمناصب حسب المواقع العشائرية وليس على اساس التقوى والنزاهة.

لما احس زعيم الحزب العلوي هاني بن عروة ان ميزان الاحداث بدأت تميل الى الامويين, دعا عبيد الله بن زياد الى داره بعدما تلقى دعوة من بن زياد ولكنه ادعى المرض والح على عبيدالله الحضور بعدما اتفق مع مسلم بن عقيل ان يكمن خلف ساتر وينتظر اشارة هاني لينقض ويقتل عبيدالله.
لم ينتبه عبيدالله للمكيده وذهب لبيت هاني املا في اغرائه بالمال او المناصب ولما جلس اصدر هاني اشارته لمسلم فلم ينتبه عبيدالله – وكانت طلب ماء للشرب – لكن مسلم لم يخرج, كرر هاني الطلب ثانيا وثالثا عندها ادرك عبيدالله ان هناك مكيدة فخرج مستعجلا وهرب.
عاتب هاني مسلما وقال له ضربة سيف واحدة كانت لتنقذ الكثير من الارواح غير ان مسلم قال انه لايؤمن بالغدر وكيف يؤسس دولة لأهل البيت تقوم على الغدر!

تلك الحادثة جعلت عبيد الله يستجعل مخطط بدء الاعتقالات في الحزب العلوي, اذ ارسل في دعوة هاني الى دار الامارة والح في طلبه اذ كان عبيدالله يخشى قبيلة هاني – مذحج – تصور هاني ان عبيدالله لن يجرأ على قتله او اعتقاله لان الوضع العام ما زال مع مسلم بالاضافة الى اعتماده على قبيلته –اكثر من ثلاثين ألف رجل - لكن عبيدالله دعا زعماء القبائل وشريح القاضي المعروف لدى أهل الكوفة وما أن دخل هاني حتى ضربه وإعتقله ورمى به في سجن دار الامارة ثم ارسل شريح القاضي ليقسم لبني مذحج ان هاني بخير وهو في ضيافة بن زياد.

لما وصل خبر هاني الى مسلم جهز كتائب من اربعة الاف رجل ليهاجم دار الامارة – ومن مشيئة الاقدار ان خيرة رجال مسلم كانوا في كتيبة خارج الكوفة بمهمة منه يقودهم المختار الثقفي صاحب الثورة التي انتقمت للحسين - ولما وصل مسلم دار الامارة مع كتائبه اعتلى بن زياد اعلى الدار وخطب فيهم مهددا بقدوم مأئة الف من جيش الشام لا تبقي وليدا لاهل الكوفة وبنفس الوقت وعدهم بالامان والاموال ان تركوا مسلم.

تفرق رجال مسلم بعدما دخلت بعض النسوة تجبنهم وتدعونهم ان لا يقاتلوا لان المسألة شخصية بين الهاشميين والامويين وكانت واحدة من انجح اساليب الدعاية لابن زياد, أما قبيلة هاني فقد انضم بعضهم للحزب الاموي طامعا في الاموال والمناصب واخرون قالوا لا طاقة لبني مذحج بجيش الشام.
مع اعتقال هاني زعيم الحزب العلوي والغارة الفاشلة لمسلم اسس عبيدالله كتائب من الحزب الاموي لاعتقال ألوف من الحزب العلوي والمناصرين إذ يقدر المؤرخون ان عبيدالله زج في السجون اكثر من ثلاثة عشر الف رجل من المواليين للحسين, هذه الكتائب كانت تعمل اولا في ظلمة الليل ثم في النهار. وبعد ايام قلائل من تلك الحادثة وموجات الاعتقال الليلية وكثرة الشائعات بقدوم الجيش الاموي المائة الف, وجد مسلم نفسه غير أمن في الظهور العلني فإختبأ في دار احد المناصرين غير المعروفين, وصارت الكوفة في قبضة كتائب عبيدالله بن زياد تبحث عن مسلم بعد اعلان جائزة ثمينه لمن يجده وهو ما حصل.

توزيع الثروات وتوزيع المناصب اللتان قتلتا مسلم, المشكلة التي واجهت مسلم هي نفس المشكلة التي واجهت الحسن بن علي وقبله علي بن ابي طالب الا وهي العداله في توزيع الثروات والمناصب, واغلبية أهل الكوفة من المحايدين – لا من حزب الحسين ولا من حزب يزيد – كانوا يحبون الحسين ولكن لايريدون عدالته يبغضون الامويين ولكن يخشون ظلمهم, يحبون الحسين ومسلم لكن يحبون الدنيا وموائد بني امية أكثر فالحسين لا يعطي الرشوة.

ولو قلبنا الأمر بأن صار معاوية حاكم العراق وعلي حاكم الشام, أظن أن الامر نفسه كان سيتكرر ولكن في نموذج معكوس لأن الطبيعة البشرية تحب الدنيا وهي ما أذكاها معاوية في حب المال ونهب الامم بإسم الفتوحات وإستعبادهم بإسم الاسلام أما علي أراد إعادة الناس الى عهد النبي في حب الاخرة وإقامة العدل.