الصفحات

الثلاثاء، 6 مارس 2012

قصة السيد جعفر الاعرجي الموصلي

في مطلع العشرينيات من القرن الماضي قرر شاب موصلي أن يغير مذهبه من الاشعرية الى الجعفرية ولم يكتفي بذلك بل ذهب الى النجف ودرس فيها ثم عاد الى الموصل في زمن لم يكن في الموصل أو في أريافها شيعة لأهل البيت إذ كانت مدينة الموصل العربية سنية اشعرية والارياف بين تركمان وشبك (علويين) ومسيحيين وأيزيديين وعشائر عربية سنية.


في تلك الحقبة كانت مدينة الموصل قلعة تغلق ابوابها ليلا والاحياء تسكنها عوائل تعرف بعضها جيدا منذ زمن بعيد لذا كانت المدينة ذا طابع محافظ جدا والمساجد ذا تأثير خاص ولم يكن في الموصل أنذاك شيعة أو سلفية بل كان الجميع على مذهب الاشاعرة وما أظن ان السيد جعفر الاعرجي غادر المدينة لمضايقته بل أنه طلب النجف للتزود بالعلوم وليتأكد من مدى صحة إختياره للمذهب.


ولكن يبدوا انه كانت هناك مناظرات حرة بين السنة (أهل المدينة) وبين أفراد من الشيعة (الزائرين) الى الموصل مما جعل السيد جعفر غير مقتنع بأجوبة مشايخ اهل السنة فسافر الى النجف وسكنها من اجل العلم وتعمم بعمامة رجال الدين وتوجه بشكل خاص الى العلم العرفاني والزهد في الدنيا, وبعد سنوات عاد الى الموصل ليلتقي بأهله واصحابه ويناظرهم. ورغم ترحاب مدينته به إلا انهم لم يقتنعوا برأيه ولم يجاروه في تغيير مذهبه وتحوله الى رجل دين شيعي ولما وجد أذانا غير مستمعة قرر التوجه الى القرى.


توجه تلقاء قرى العلويين الذين يغالون في حب اهل البيت ليتحدث اليهم لكنه وجد أن العلويين التركمان والشبك المنتشرين على ثلاثين قرية متباعدة ومتقاربة وجدهم يتبعون ساداتهم من سادة الطريقة العلوية (البكتاشية), جلس الى هؤلاء السادة فقالوا له "نحن لا نصلي ولا نصوم ولا نحج ولا نزكي لان الصلاة والصيام والحج والزكاة مرفوعة عنا بحب اهل البيت الذين سيشفعون لنا" ولما وجد السيد جعفر هؤلاء السادة جهله ومغالين جدا تركهم.


كان يسير بين القرى ساعات طويلة ليحل ضيفا عند أناس لا يعرفهم ليحدثهم وفي كل قرية كان عليه ان يجادل سادة العلويين "البكتاشية" لكن دون جدوى, فأراد الحديث الى الفلاحين والبسطاء فقالوا له وهم ينظرون اليه بعمامته السوداء "نحن فلاحون نعمل من شروق الشمس الى الغروب, وعد الغروب ننام" فقال لهم "سأعمل معكم طوال النهار" وشاءت الاحوال أن يحل شهر رمضان وهو في تلك القرية (تركمان علويين) فكان هو الصائم الوحيد بينهم في صيف شديد الحرارة.


في اليوم التالي خرج معهم الى العمل في الحقول والبساتين ولم يكن العمل يقتصر على الفلاحة التي تتطلب قوة بدنية ومجهودا كبيرا بل ايضا العمل مع رعاة الماشية والابقار, فذهب مع الفلاحين الذين كانوا يحملون معهم طعاما وماء وبعضهم يحمل خمرا مخففا ويعملون بشكل جماعي ويتحدثون فيما بينهم ولما وجدوا ضيفا يزوهم ويعمل معهم ويحدثهم عن قصص النبي واهل البيت قصصا لم يسمعوها من قبل كانوا شديدي الاستماع.


لم يقل لهم السيد جعفر لا تشربوا الخمر او صلوا معي بل كان يصلي لوحده وهم ينظرون اليه وهو صائم في الحر الشديد ويعمل معهم ولم يطلب منهم عشاء دسما بل اكل ما كانوا يأكلون من رغيف الشعير, أحبوه حبا شديدا وتعلقوا به فلاحين ورعاة رغم بساطة علمهم لطلاقته وبشاشته وابتسامته, ولما ادرك السيد جعفر حب هؤلاء له بدء يحدثهم كيف كان رسول الله يصلي وكيف صام الامام علي والزهراء والحسن والحسين ثلاثة ايام ونزل فيهم قراءن .... وكيف منع رسول الله الخمر عن اصحابه, حديثا عن السيرة النبوية وسيرة ائمة اهل البيت.


تلك القرية كانت كثيرة الحقول والماشية وفي مواسم العمل يسير اليها الكثير من اهل القرى الاخرى للعمل لذا كان اختيار السيد جعفر للمكان سديدا فما مضى شهر رمضان حتى رأى اجرار الخمر تتكسر في البيوت وصوت الاذان يعلو في القرية, قالوا "يا سيد جعفرنحن لم نعلم ان الخمر حرام والصلاة والصيام واجبتان" ويعد أن تأكد من أيمان القوم تركهم على ملة الاسلام وغادر الى قرية أخرى تبعد اكثر من ثلاثين كيلو متر ليبدء صفحة جديدة.


نجاحه في هذه القرية أعطته سمعة عظيمة فما أن يدخل قرية حتى يستقبله الناس ويتحدث الى البسطاء وفي حقيقة الامر انه نجح في قرى ولم يوفق في اخرى لتاثير سادة الطريقة العلوية ولكنه بالتأكيد كان لا يخرج من اي قرية حتى يجد فيها عصابة او قوما مؤمنين بملة الاسلام. نجاحه هذا جعله معروفا لدى مراجع النجف وعلمائها ولدى مشايخ الموصل الذين كانوا يرحبون به للحوار, وقد وجدت له ذكرا لدى المرحوم العلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني من علماء النجف الاشرف إذ يذكره في رسالة من مدينة الموصل ( نينوى ) في سنة 1940 قال عنها :
(فقد سألتني - أيها الفاضل السعيد الزكي الأفخر، السيد جعفر بن السيد حسن الأعرجي الموصلي، أطال الله بقاك في احياء شرع جدك الأطهر - أن أكتب شيئا في بيان سبب اختلاف مذاهب العامة في فروع أحكام الدين ...) مما دعا الشيخ الطهراني الى كتابة كتابي (تفنيد قول العوام بقدم الكلام) و (توضيح الرشاد في تاريخ حصر الاجتهاد).


بعد كل العمل الجاد للسيد جعفر اختارته المرجعية ليكون وكيلها في شمال العراق فأعطى نموذجا عن زهد وعلم الامام موسى الكاظم ولكن للاسف ومع مطلع الخمسينيات بدا ان هناك من بداخل الحوزة العلمية من لا يرغب بالسيد جعفر وكيلا بعد تزايد اعداد الشيعة في الموصل, فأثر السكن في النجف والابتعاد عن المنافسة الدنيوية على زعامة الشيعة في الموصل خاصة عندما استعمل معه من اساليب الترهيب والترغيب لترك الموصل, فقرر تركها على ان لا يشق صف الطائفة الشيعية بين طرفين متباغضين .... وهناك في النجف الاشرف بجوار أمير المؤمنين قضى بقية عمره وفيها دفن.


ما أحوجنا الى أمثال السيد جعفر.